فصل: مسألة: لَيْسَ لِلْإِمَامُ أَنْ يُصَالِحَ أَحَدًا مِنْهُمْ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ الْحِجَازَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل: [فيما إذا أَشْكَلَ عَلَى الإِمَامِ قدر جزية أهل الذمة]:

فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، وَتَطَاوَلَ الزَّمَانُ، وَأَشْكَلَ عَلَى إِمَامِ قدر جزية أهل الذمة الْوَقْتِ قَدْرُ جِزْيَتِهِمْ، فَإِنِ اسْتَفَاضَتْ بِهَا الْأَخْبَارُ، وَانْتَشَرَ ذِكْرُهَا فِي الْأَمْصَارِ، عَمِلَ فِيهَا عَلَى الْخَبَرِ الْمُسْتَفِيضِ.
وَإِنْ لَمْ تُعْرَفِ اسْتِفَاضَتُهَا رَجَعَ إِلَى شَهَادَةِ الْعُدُولِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا شَهِدَ مِنْهُمْ عَدْلَانِ بِمِقْدَارٍ مِنَ الْجِزْيَةِ يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى مِثْلِهِ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ عَدْلَانِ، وَكَانَ فِي دِيوَانِهِمُ الْمَوْضُوعِ بِجِزْيَتِهِمْ قَدْرُ جِزْيَتِهِمْ، وَشُرُوطِ صُلْحِهِمْ، فَإِنِ ارْتَابَ بِهِ وَلَمْ تَقَعْ فِي النَّفْسِ صِحَّتُهُ، لِخُطُوطٍ مُشْتَبِهَةٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهِ.
وَإِنِ انْتَفَتْ عَنْهُ الرِّيبَةُ، وَكَانَ تَحْتَ خَتْمِ أُمَنَاءِ الْكِتَابِ، فَفِي جَوَازِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهِ الْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ، وَعَلَى هَذَا لَوِ ادَّعَى ذِمِّيٌّ دَفْعَ جِزْيَتِهِ بِبَرَاءَةٍ أَحْضَرَهَا لَمْ يَبْرَأْ بِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ اعْتِبَارًا بِعُرْفِ الْأَئِمَّةِ فِيهِ: لِأَنَّ الدِّيوَانَ مَوْضُوعٌ لَهُ، وَكَمَا يَجُوزُ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّاوِي عَلَى خَطِّهِ إِذَا تَحَقَّقَهُ، وَخَالَفَ مَا عَلَيْهِ الْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا فِي دَوَاوِينِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُقُوقَ بَيْتِ الْمَالِ عَامَّةٌ، فَكَانَ حُكْمُهَا أَوْسَعَ، وَأَحْكَامَ الْقُضَاةِ خَاصَّةٌ، فَكَانَ حُكْمُهَا أَضْيَقَ. وَالثَّانِي: أَنَّ حُقُوقَ بَيْتِ الْمَالِ لَا يَتَعَيَّنُ مُسْتَحِقُّهَا، وَيَتَعَذَّرُ مَنْ يَتَوَلَّى الْإِشْهَادَ فِيهَا، وَحُقُوقَ الْخُصُومِ عِنْدَ الْقُضَاةِ، يَتَعَيَّنُ مُسْتَحِقُّهَا، وَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَلَّى الْإِشْهَادَ فِيهَا. وَعَلَى هَذَا لَوِ ادَّعَى ذِمِّيٌّ دَفْعَ جِزْيَتِهِ بِبَرَاءَةٍ أَحْضَرَهَا تَقَعُ فِي النَّفْسِ صِحَّتُهَا بَرِئَ.

.فصل: [في سؤال الإمام أَهْل الذِّمَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْصَارِ عَنْ قَدْرِ جِزْيَتِهِمْ]:

فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْإِمَامُ مَا يَعْمَلُ عَلَيْهِ مِنْ جِزْيَتِهِمْ مِنْ خَبَرٍ مُسْتَفِيضٍ، وَلَا شَهَادَةٍ خَاصَّةٍ، وَلَا دِيوَانٍ مَوْثُوقٍ جزية أَهْلَ الذِّمَّةِ، بِصِحَّتِهِ أَوْ وَجَدَهُ، وَقُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْصَارِ، وَيَسْأَلَهُمْ عَنْ قَدْرِ جِزْيَتِهِمْ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَسْأَلَهُمْ أَفْرَادًا غَيْرَ مُجْتَمِعِينَ، فَإِذَا اعْتَرَفُوا بِقَدْرٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جِزْيَةً لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكَانَ مَعَهُمْ عَلَى مَا مَضَى، لَوْ صُولِحُوا عَلَى مَا لَا يَجُوزُ. وَإِنِ اعْتَرَفُوا بِقَدْرٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جِزْيَةً قَبِلَهُ مِنْهُمْ، وَلَهُمْ فِيهِ حَالَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَتَّفِقُوا جَمِيعًا عَلَى الْقَدْرِ، فَيَعْمَلَ عَلَيْهِ مَعَ جَمِيعِهِمْ بَعْدَ إِحْلَافِهِمْ عَلَيْهِ، وَالْيَمِينُ وَاحِدَةٌ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَخْتَلِفُوا فِيهَا، فَيُقِرُّ بَعْضُهُمْ بِدِينَارٍ، وَيُقِرُّ بَعْضُهُمْ بِأَكْثَرَ، فَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ- وَإِنْ جَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ- وَيَكْتُبُ الْإِمَامُ فِي دِيوَانِ الْجِزْيَةِ أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِمْ حِينَ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ صُلْحُهُمْ، فَاعْتَرَفُوا بِكَذَا وَكَذَا. وَإِنِ اخْتَلَفُوا أَثْبَتَ أَسْمَاءَ الْمُخْتَلِفِينَ، وَمَا لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ بِإِقْرَارِهِ، وَأَنَّهُ أَمْضَاهُ بَعْدَ إِحْلَافِهِ، لِجَوَازِ أَنْ تَتَجَدَّدَ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ، يُخَالِفُهَا، فَيَحْكُمَ بِهَا، وَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِأَكْثَرِهِمَا أَقَرُّوا بِهِ عَمِلَ عَلَيْهَا، وَاسْتَوْفَى مَا لَمْ يَأْخُذْهُ مِنَ الزِّيَادَةِ، وَعَادَ إِلَى دِيوَانِهِ، فَأَثْبَتَ مَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ بَعْدَ مَا أَخَذَ مِنَ الْإِقْرَارِ، وَصَارَ ذَلِكَ حُكْمًا مُؤَبَّدًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.مسألة: لَيْسَ لِلْإِمَامُ أَنْ يُصَالِحَ أَحَدًا مِنْهُمْ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ الْحِجَازَ:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَيْسَ لِلْإِمَامُ أَنْ يُصَالِحَ أَحَدًا مِنْهُمْ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ الْحِجَازَ بِحَالٍ، وَلَا يَبِينُ أَنْ يَحْرُمَ أَنْ يَمُرَّ ذِمِّيٌّ بِالْحِجَازِ مَارًّا لَا يُقِيمُ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ لَيَالٍ وَذَلِكَ مَقَامُ مُسَافِرٍ، لِاحْتِمَالِ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِجْلَائِهِمْ عَنْهَا أَنْ لَا يَسْكُنُوهَا وَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْخُلَهَا الرُّسُلُ لِقَوْلِهِ تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} الْآيَةَ وَلَوْلَا أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَجَّلَ مَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْهُمْ تَاجِرًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يُقِيمُ فِيهَا بَعْدَ ثَلَاثٍ لَرَأَيْتُ أَنْ لَا يُصَالَحُوا عَلَى أَنْ لَا يَدْخُلُوهَا وَلَا يُتْرَكُوا يَدْخُلُونَهَا إِلَّا بِصُلْحٍ كَمَا كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَأْخُذُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِذَا دَخَلُوا الْمَدِينَةَ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ بِلَادَ الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: حَرَمٌ، وَحِجَازٌ، وَمَا عَدَاهُمَا. فَأَمَّا الْحَرَمُ دخول غير المسلم إليه، فَهُوَ أَشْرَفُهَا، لِمَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَيْتِهِ الْحَرَامِ الَّذِي عَلَّقَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ، وَشَرَّفَهُ بِهَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ مَا مَيَّزَهُ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ بِحُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَدْخُلَهُ قَادِمٌ إِلَّا مُحْرِمٌ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ. وَالثَّانِي: تَحْرِيمُ صَيْدِهِ أَنْ يُصَادَ، وَشَجَرِهِ أَنْ يُعْضَدَ. وَلَمَّا كَانَتْ لَهُ هَذِهِ الْحُرْمَةُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَهُ مُشْرِكٌ مِنْ كِتَابِيٍّ، وَلَا وَثَنِيٍّ لِمَقَامٍ، وَلَا اجْتِيَازٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ دُخُولُهُمْ إِلَيْهِ لِلتِّجَارَةِ وَحَمْلِ الْمِيرَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِيطَانٍ، وَيُمْنَعُونَ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ شَرَفَ الْبِقَاعِ لَا يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِهِمْ إِلَيْهَا كَالْمَسَاجِدِ، وَلَمَّا لَمْ تَمْنَعِ الْجَنَابَةُ مِنْ دُخُولِهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ الْمُشْرِكُ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَتَادَةُ: يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ فِيهِ الذِّمِّيُ دُونَ الْوَثَنِيِّ، وَالْعَبْدُ الْمُشْرِكُ إِذَا كَانَ مِلْكًا لِمُسْلِمٍ: لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ نَصْرَانِيٍّ بِمَكَّةَ يُقَالُ لَهُ مَوْهَبٌ، وَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ إِلَّا مِنْ مُسْتَوْطِنٍ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التَّوْبَةِ: 28]. وَفِي قَوْلِهِ: {نَجَسٌ} ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ أَنْجَاسُ الْأَبْدَانِ، كَنَجَاسَةِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، حَتَّى أَوْجَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ الْوُضُوءَ عَلَى مَنْ ضَاجَعَهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ سَمَّاهُمْ أَنْجَاسًا لِأَنَّهُمْ يَجْنُبُونَ، فَلَا يَغْتَسِلُونَ، فَصَارُوا لِوُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهِمْ كَالْأَنْجَاسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَنْجَاسًا، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَلَيْنَا أَنْ نَجْتَنِبَهُمْ كَالْأَنْجَاسِ صَارُوا بِالِاجْتِنَابِ فِي حُكْمِ الْأَنْجَاسِ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَوْلُهُ: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التَّوْبَةِ: 28]. يُرِيدُ بِهِ الْحَرَمَ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَسْجِدِ، لِحُلُولِهِ فِيهِ، كَمَا قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الْإِسْرَاءِ: 1]. يُرِيدُ بِهِ مَكَّةَ: لِأَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ مِنْ مَنْزِلِ أُمِّ هَانِئٍ، وَهَكَذَا كُلُّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَ اللَّهُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْحَرَمَ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الْبَقَرَةِ: 144]. يُرِيدُ بِهِ الْكَعْبَةَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَقَدْ مَنَعَ أَنْ يَقْرَبَهُ مُشْرِكٌ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ مَحْمُولًا عَلَى عُمُومِهِ فِي الدُّخُولِ وَالِاسْتِيطَانِ. وَقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [الْبَقَرَةِ: 126]. يَعْنِي مَكَّةَ، وَحَرَمَهَا، {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} [الْبَقَرَةِ: 126]. يَعْنِي بِمَكَّةَ، وَهُوَ قَبْلَ فَتْحِهَا، فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِهَا عَلَى الْكَافِرِ بَعْدَ فَتْحِهَا. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: أَلَا لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْقَصْدِ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اخْتُصَّ الْحَرَمُ بِمَا شَرَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ عَلَى سَائِرِ الْبِقَاعِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يُصَانَ مِمَّنْ عَانَدَهُ، وَطَاعَنَهُ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا ذَكَرَ فَضَائِلَ الْأَعْمَالِ فِي الْبِقَاعِ، فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَقَالَ: صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي بِأَلْفِ صَلَاةٍ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي هَذَا، وَهَذَا التَّفْضِيلُ يُوجِبُ فَضْلَ الْعِبَادَةِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ مَوْهَبٍ النَّصْرَانِيِّ بِمَكَّةَ، فَهُوَ أَنَّهُ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: لِأَنَّهَا نَزَلَتْ سَنَةَ تِسْعٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ، فَهُوَ أَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ أَعْظَمُ، لِتَقَدُّمِ تَحْرِيمِهِ، وَلِوُجُوبِ الْإِحْرَامِ فِي دُخُولِهِ، وَلِلْمَنْعِ مِنْ قَتْلِ صَيْدِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْمُسْلِمِ الْجُنُبِ، فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْنَعِ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ مِنْ الِاسْتِيطَانِ لَمْ يُمْنَعْ مِنَ الدُّخُولِ، وَالْمُشْرِكُ مَمْنُوعٌ مِنْ الِاسْتِيطَانِ، فَمُنِعَ مِنَ الدُّخُولِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ الْحَرَمَ مُشْرِكٌ، وَوَرَدَ الْمُشْرِكُ رَسُولًا إِلَى الْإِمَامِ، وَهُوَ فِي الْحَرَمِ، خَرَجَ الْإِمَامُ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الدُّخُولِ، فَلَوْ دَخَلَ مُشْرِكٌ إِلَى الْحَرَمِ سواء كان جاهلا أو عالما بالتحريم لَمْ يُقْتَلْ، وَعُزِّرَ إِنْ عَلِمَ بِالتَّحْرِيمِ، وَلَمْ يُعَزَّرْ إِنْ جَهِلَ، وَأُخْرِجَ، فَإِنْ مَاتَ فِي الْحَرَمِ لَمْ يُدْفَنْ فِيهِ، فَلَوْ دُفِنَ فِيهِ نُبِشَ، وَنُقِلَ إِلَى الْحِلِّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ بَلِيَ، فَيُتْرَكَ كَسَائِرِ الْأَمْوَاتِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَلَوْ أَرَادَ مُشْرِكٌ أَنْ يَدْخُلَ الْحَرَمَ، لِيُسْلِمَ بِهِ مُنِعَ مِنْ دُخُولِهِ، حَتَّى يُسْلِمَ، ثُمَّ يَدْخُلَهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، فَلَوْ صَالَحَ الْإِمَامُ مُشْرِكًا عَلَى دُخُولِ الْحَرَمِ بِمَالٍ بَذَلَهُ كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا، وَيُمْنَعُ الْمُشْرِكُ مِنَ الدُّخُولِ، فَإِنْ دَخَلَ إِلَيْهِ أُخْرِجَ مِنْهُ، وَلَزِمَهُ الْمَالُ الَّذِي بَذَلَهُ مَعَ فَسَادِ الصُّلْحِ، لِحُصُولِ مَا أَرَادَ مِنَ الدُّخُولِ، وَاسْتَحَقَّ عَلَيْهِ مَا سَمَّاهُ دُونَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَإِنْ فَسَدَ: لِأَنَّهُ لَا أُجْرَةَ لِمِثْلِهِ لِتَحْرِيمِهِ. وَحَدُّ الْحَرَمِ مِنْ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ دُونَ التَّنْعِيمِ عِنْدَ بُيُوتِ نِفَارٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ. وَمِنْ طَرِيقِ الْعِرَاقِ عَلَى ثَنِيَّةِ خَلٍّ بِالْمُقَطِّعِ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ. وَمِنْ طَرِيقِ الْجِعِرَّانَةِ مِنْ شِعْبِ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ عَلَى تِسْعَةِ أَمْيَالٍ. وَمِنْ طَرِيقِ الطَّائِفِ عَلَى عَرَفَةَ مِنْ بَطْنِ نَمِرَةَ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ. وَمِنْ طَرِيقِ جَدَّةَ مُنْقَطَعُ الْأَعْشَاشِ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ.

.فصل: [في استيطان الحجاز لغير المسلم]:

وَأَمَّا الْحِجَازُ استيطان الحجاز لغير المسلم فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْطِنَهُ مُشْرِكٌ، مِنْ كِتَابِيٍّ وَلَا وَثَنِيٍّ، وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ كَسَائِرِ الْأَمْصَارِ احْتِجَاجًا بِإِقْرَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ إِلَى أَنْ قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَاَلَى إِلَيْهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ أَرْضٍ حَلَّ صَيْدُهَا حَلَّ لَهُمُ اسْتِيطَانُهَا كَغَيْرِ الْحِجَازِ. وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: كَانَتْ آخِرُ مَا عَهِدَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ قَالَ: لَا يَجْتَمِعُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ وَهَذَا نَصٌّ. وَلَمَّا قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَ عَمَلِهِ بِهِ لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ قَوْلِهِ، وَتَشَاغَلَ أَبُو بَكْرٍ فِي أَيَّامِهِ مَعَ قِصَرِهَا بِأَهْلِ الرِّدَّةِ، وَمَانِعِي الزَّكَاةِ، وَتَطَاوَلَتِ الْأَيَّامُ بِعُمَرَ رضي الله عنه وَتَكَامَلَتْ لَهُ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ، وَفَتَحَ مَا جَاوَرَهَا، نَفَّذَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُ، وَرَأْيُ الصَّحَابَةِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- عَلَى إِجْلَائِهِمْ وَكَانَ فِيهِمْ تُجَّارٌ وَأَطِبَّاءُ، وَصُنَّاعٌ، يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ: فَضَرَبَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْهُمْ تَاجِرًا، وَصَانِعًا مَقَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يُنَادَى فِيهِمْ، بَعْدَهَا اخْرُجُوا، وَهُنَا إِجْمَاعٌ بَعْدَ نَصٍّ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُمَا، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِيَهُودِ خَيْبَرَ حِينَ سَاقَاهُمْ عَلَى نَخْلِهَا: أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُقَامَهُمْ غَيْرُ مُسْتَدَامٍ، وَأَنَّ لِحَظْرِهِ فِيهِمْ حُكْمًا مُسْتَجَدًّا. وَرُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: لَئِنْ عِشْتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَنْفِيَنَّ الْيَهُودَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَمَاتَ قَبْلَ نَفْيِهِمْ، وَلِأَنَّ الْحِجَازَ لَمَّا اخْتُصَّ بِحَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَبْعَثِ رِسَالَتِهِ وَمُسْتَقَرِّ دِينِهِ، وَمُهَاجَرَةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم صَارَ أَشْرَفَ مِنْ غَيْرِهِ، فَكَانَتْ حُرْمَتُهُ أَغْلَظَ، فَجَازَ أَنْ يُصَانَ عَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَالْحَرَمِ.
فَإِذَا ثَبَتَ حَظْرُ اسْتِيطَانِ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِلْحِجَازِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَدْخُلُوهُ دُخُولَ الْمُسَافِرِينَ لَا يُقِيمُوا مِنْ مَوْضِعٍ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ: لِأَنَّ عُمَرَ حِينَ أَجْلَاهُمْ ضَرَبَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْهُمْ تَاجِرًا أَوْ صَانِعًا مَقَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَكَانَ هَذَا الْقَدْرُ مُسْتَثْنًى مِنَ الْحَظْرِ، اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِيطَانِ دُونَ الِاجْتِيَازِ: وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التَّوْبَةِ: 6] وَيَكْفِيهِ أَنْ يَهْتَدِيَ بِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فِي مُدَّةِ ثَلَاثٍ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا انْخَفَضَتْ حُرْمَةُ الْحِجَازِ عَنِ الْحَرَمِ، وَفُضِّلَتْ عَلَى غَيْرِهِ أُبِيحَ لَهُمْ مِنْ مُقَامِ مَا لَمْ يَسْتَبِيحُوهُ فِي الْحَرَمِ، وَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنِ اسْتِيطَانِ الْحِجَازِ مَا اسْتَبَاحُوهُ فِي غَيْرِهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اخْتُصَّتِ الْإِبَاحَةُ بِمُقَامِ الْمُسَافِرِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لَا يَتَجَاوَزُونَهَا، وَيُمْنَعُونَ مِنْ دُخُولِ الْحِجَازِ، وَإِنْ كَانُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ: لِأَنَّ مَقْصُودَهُ التَّصَرُّفُ دُونَ الْأَمَانِ. فَلَوْ أَذِنَ لَهُمْ وَاحِدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلُوا بِإِذْنِهِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ أَذِنَ لِحَرْبِيٍّ جَازَ أَنْ يَدْخُلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِإِذْنِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِإِذْنِهِ لِلْحَرْبِيِّ أَمَانُهُ، وَأَمَانُ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَجُوزُ، وَالْمَقْصُودَ بِإِذْنِهِ لِلذِّمِّيِّ فِي دُخُولِ الْحِجَازِ التَّصَرُّفُ الْمَقْصُورُ عَلَى إِذْنِ الْإِمَامِ، فَلَوْ دَخَلَ ذِمِّيٌّ الْحِجَازَ بِغَيْرِ إِذْنٍ عُزِّرَ وَأُخْرِجَ وَلَا يُغْنَمُ مَالُهُ: لِأَنَّ لَهُ بِالذِّمَّةِ أَمَانًا وَلَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ بِلَادَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ إِذْنٍ غُنِمَ مَالُهُ: لِأَنَّهُ لَا أَمَانَ لَهُ، وَيَجُوزُ إِذَا أَقَامُوا بِبَلَدٍ مِنَ الْحِجَازِ ثَلَاثًا أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى غَيْرِهِ، فَيُقِيمُوا فِيهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي بَلَدٍ بَعْدَ بَلَدٍ، فَإِنْ لَمْ يَقْضِ حَاجَتَهُ فِي الثَّلَاثِ، وَاحْتَاجَ إِلَى زِيَادَةِ مَقَامٍ: لِاقْتِضَاءِ الدُّيُونِ مُنِحَ، وَقِيلَ لَهُ: وَكِّلْ مَنْ يَقْبِضُهَا لَكَ، وَلَوْ مَرِضَ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى النُّهُوضِ مُكِّنَ مِنَ الْمُقَامِ: لِأَنَّهَا حَالُ ضَرُورَةٍ حَتَّى يَبْرَأَ، فَيَخْرُجَ بِخِلَافِ الدَّيْنِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى قَبْضِهِ، فَإِنْ مَاتَ فِي الْحِجَازِ لَمْ يُدْفَنْ فِيهِ: لِأَنَّ الدَّفْنَ مَقَامُ تَأْبِيدٍ إِلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ إِخْرَاجُهُ، وَيَتَغَيَّرَ إِنِ اسْتُبْقَى مِنْ غَيْرِ دَفْنٍ فَيُدْفَنُ فِي الْحِجَازِ لِلضَّرُورَةِ كَمَا يُقِيمُ فِيهِ مَرِيضًا. فَأَمَّا الْحِجَازُ، فَهُوَ بَعْضُ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلِأَنَّ كُلَّ قَوْلٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَوَجِّهٌ إِلَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَهِيَ فِي قَوْلِ الْأَصْمَعِيِّ مِنْ أَقْصَى عَدَنَ إِلَى أَقْصَى رِيفِ الْعِرَاقِ فِي الطُّولِ، وَمِنْ جَدَّةَ وَمَا وَالَاهَا إِلَى أَطْرَافِ الشَّامِ فِي الْعَرْضِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَزِيرَةُ الْعَرَبِ فِي الطُّولِ مَا بَيْنَ حَفْرِ أَبِي مُوسَى إِلَى أَقْصَى الْيَمَنِ، وَفِي الْعَرْضِ مَا بَيْنَ رَمْلَ إِلَى يَبْرِينَ إِلَى مُنْقَطَعِ السَّمَاوَةِ، وَفِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ أَرْضُ نَجْدٍ وَتِهَامَةَ، وَحَدُّ نَجْدٍ وَتِهَامَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: إِذَا خَلَّفْتَ عَجَازَ مُصْعِدًا، فَقَدْ أَنْجَدْتَ، فَلَا تَزَالُ مُنْجِدًا حَتَّى تَنْحَدِرَ فِي ثَنَايَا ذَاتِ عِرْقٍ، فَإِذَا فَعَلْتَ فَقَدْ أَتْهَمْتَ، وَلَا تَزَالُ مُتْهِمًا فِي ثَنَايَا الْعَرْجِ حَتَّى يَسْتَقْبِلَكَ الْأَرَاكُ وَالْمَدَارِجُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: جَبَلُ السُّرَاةِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَهُوَ أَعْظَمُ جِبَالِهَا يُقْبِلُ مِنْ ثُغْرَةِ الْيَمَنِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى وَادِي الشَّامِ فَمَا دُونَ هَذَا الْجَبَلِ فِي غَرْسِيَّةَ مِنْ أَسْيَافِ الْبَحْرِ إِلَى ذَاتِ عِرْقٍ، وَالْجُحْفَةِ هُوَ تِهَامَةُ، وَمَا دُونَ هَذَا الْجَبَلِ فِي شَرْقِيِّ مَا بَيْنَ أَطْرَافِ الْعِرَاقِ إِلَى السَّمَاوَةِ، فَهُوَ نَجْدٌ. وَأَمَّا الْحِجَازُ فَهُوَ حَاجِزٌ بَيْنَ تِهَامَةَ وَنَجْدٍ، وَهُوَ مِنْهُمَا، وَحَدُّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مَا احْتَجَزَ بِالْجَبَلِ فِي شَرْقِيِّهِ وَغَرْبِيِّهِ عَنْ بِلَادِ مَذْحِجَ إِلَى فَيْدَ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ اثْنَتَا عَشْرَةَ دَارًا لِلْعَرَبِ. فَالْحَدُّ الْأَوَّلُ: بَطْنُ مَكَّةَ، وَأَعْلَا رُمَّةَ وَظَهْرُهُ، وَحَرَّةُ لَيْلَى. وَالْحَدُّ الثَّانِي: يَلِي الشَّامَ شَفْيٌ وَبَدَا، وَهُمَا جَبَلَانِ. وَالْحَدُّ الثَّالِثُ: يَلِي تِهَامَةَ بَدْرٌ، وَالسُّقْيَا، وَرِهَاطُ، وَعُكَاظُ. وَالْحَدُّ الرَّابِعُ: سَاكَةُ وَوَدَّانُ. وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِ بِالْحِجَازِ، فَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: لِأَنَّهُ حَجَزَ بَيْنَ نَجْدٍ وَتِهَامَةَ. وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: سُمِّيَ حِجَازًا لِمَا أَحْجَزَ مِنَ الْجِبَالِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْحِجَازِ فَضْلٌ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَمَنْ دَخَلَهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِغَيْرِ ذِمَّةٍ وَلَا عَهْدٍ أي بلاد الإسلام غير الحرم والحجاز فَهُوَ حَرْبٌ كَالْأَسْرَى يُغْنَمُ وَيُسْبَى، وَيَكُونُ الْإِمَامُ فِيهِ مُخَيَّرًا كَتَخْيِيرِهِ فِي الْأَسِيرِ بَيْنَ الْأَحْكَامِ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الْقَتْلِ أَوِ الْأَسْرِ أَوِ الْمَنِّ أَوِ الْفِدَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْفُوَ مِنْ سَبْيِ ذُرِّيَّتِهِ بِخِلَافِ السَّبَايَا فِي الْحَرْبِ: لِأَنَّ الْغَانِمِينَ قَدْ مَلَكُوهُمْ: فَلَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُمْ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ، وَذُرِّيَّةُ هَذَا الدَّاخِلِ بِغَيْرِ عَهْدٍ لَمْ يَمْلِكْهُمْ أَحَدٌ، فَجَازَ فَوْقَ الْإِمَامِ. فَأَمَّا مَنْ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ، فَضَرْبَانِ: أَهْلُ ذِمَّةٍ، وَأَهْلُ عَهْدٍ. فَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ، فَهُوَ الْمُسْتَوْطِنُ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِيطَانُهُمْ إِلَّا بِجِزْيَةٍ إِذَا كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ، أَوْ شُبْهَةِ كِتَابٍ. وَأَمَّا أَهْلُ الْعَهْدِ، فَهُوَ الدَّاخِلُ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ اسْتِيطَانٍ، فَيَكُونُ مَقَامُهُمْ مَقْصُورًا عَلَى مُدَّةٍ لَا يَتَجَاوَزُونَهَا، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التَّوْبَةِ: 2] فَأَمَّا مُدَّةُ سَنَةٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمُوهَا إِلَّا بِجِزْيَةٍ، وَفِي جَوَازِ إِقَامَتِهِمْ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ فِيمَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَبَيْنَ سَنَةٍ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّهَا دُونَ السَّنَةِ كَالْأَرْبَعَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ: لِأَنَّهُ فَوْقَ الْأَرْبَعَةِ كَالسَّنَةِ، وَسَوَاءٌ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ لَمْ يَكُونُوا.